الظل القاتم للعيد.. كيف تحوّل النزوح إلى سجن تُنتهك فيه حقوق الإنسان؟
الظل القاتم للعيد.. كيف تحوّل النزوح إلى سجن تُنتهك فيه حقوق الإنسان؟
في وقت يُفترض أن يحمل العيد معه الفرح والسكينة، يحلّ على مخيمات النزوح كظلّ ثقيل بلا ملامح بهجة هناك، بين الخيام الواهنة والزوايا المنسية، يأتي العيد بلا مأوى، بلا كهرباء، بلا ماء، بلا طعام كافٍ، ولا حتى صدى لضحكة صادقة.
ملايين النازحين واللاجئين في سوريا، وفلسطين، والسودان، وليبيا، وسواها من بقاع أنهكتها الحروب، يعيشون أعيادهم في خيام لا تحمي سوى أجساد مرهقة، وأرواح أثقلها الفقد.
في سوريا، التي ما زالت ترزح تحت وطأة حرب مستمرة منذ أكثر من عقد، يعيش نحو 6.8 مليون نازح داخليًا، إضافة إلى أكثر من 5.5 مليون لاجئ في الخارج، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة (UNHCR)، حيث لا تعرف الكثير من المخيمات معنى الكهرباء المنتظمة، ولا مياه نظيفة تكفي للسقاية أو للنظافة، ما يجعل فرحة العيد شبه منعدمة. يستيقظ الأطفال في صباح العيد على صوت الريح وهي تعصف بخيامهم المهترئة، ووجوه الأمهات تحكي عن وجع الأمس واليوم، يتمنين لهم حياة أفضل، لكن أمام عينيهن تظل الخيام شاهدة على الحصار والفقر والجوع.
في السودان تسبب النزاع المسلح في نزوح أكثر من 4 ملايين شخص داخليًا، وفرار 800 ألف لاجئ إلى الدول المجاورة، حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. (UNHCR Sudan) في مخيمات اللاجئين في دول الجوار، وفي الأراضي السودانية ذاتها، يتكدس النازحون تحت خيامٍ لا توفر لهم الحماية من الحر والبرد، ويعانون من انعدام الكهرباء والمياه النظيفة، بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية الأساسية، وفي العيد، لا تتغير تلك الحقائق، بل تصبح أكثر وضوحًا: أضواء خافتة تُضاء بمصابيح صغيرة تعمل بالبطاريات، ووجبات بسيطة لا ترقى لما يستحقه العيد من كرم وحفاوة، ووجوه يكسوها التعب رغم محاولات الفرحة.
في ليبيا التي لا تزال تغرق في دوامة من عدم الاستقرار السياسي والأمني منذ أكثر من عقد، يعيش مئات الآلاف من النازحين داخليًا في ظروف إنسانية بالغة القسوة، وتشير آخر التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) لعام 2025 إلى أن عدد النازحين داخليًا في ليبيا يناهز 630,000 شخص، يتركز معظمهم في مخيمات مؤقتة وموزعة بشكل غير منتظم بين المناطق المتضررة من الصراع المستمر، حيث تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة الإنسانية.
تفتقر هذه المخيمات إلى المياه النظيفة والكهرباء، إذ تكشف بيانات منظمة أطباء بلا حدود (MSF) لعام 2024 أن أكثر من 67% من هذه المخيمات تواجه انقطاعات متكررة للكهرباء تصل إلى 18 ساعة أو أكثر يوميًا، بينما يعاني 78% منها من نقص حاد في المياه الصالحة للشرب.
ووفقًا لتقارير اليونيسف، يعاني أكثر من 42% من الأطفال النازحين في هذه المخيمات من سوء تغذية حاد، وهو مؤشر مقلق يتفاقم مع اقتراب مواسم الأعياد نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي وندرة الموارد الغذائية. هذه الأرقام لا تعكس فقط أزمة حادة في الموارد، بل تشير إلى كارثة صحية وإنسانية مستمرة تهدد حياة الأطفال والنساء والرجال على حد سواء.
القهر والحرمان
هذا العيد الذي يُفترض أن يكون مناسبة تتجلى فيها نكهة الحياة والفرح بين أحضان العائلة، يتحول إلى صورة مؤلمة من القهر والحرمان، فالغياب الذي يعانيه النازحون ليس غياب أشخاص فحسب، بل غياب الأمن والاستقرار والحق في حياة كريمة. لا كهرباء تضيء لياليهم المظلمة، ولا مياه تغسل وجوههم، ولا طعام يروي جوعهم، بل غياب أمل يتردد صدى صمته في أجواء العيد.
في قلب الأزمة الليبية، لا تُروى المأساة الإنسانية بالأرقام فقط، بل بأصوات الأطفال، ودموع الأمهات، ونظرات الرجال الذين يحملون على أكتافهم أعباء فقدان الوطن والكرامة، وتشير آخر تقارير الأمم المتحدة الصادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في 2024، إلى وجود أكثر من 278 ألف نازح داخلي في ليبيا، يعيش معظمهم في مراكز إيواء مؤقتة أو في مبانٍ مدمّرة جزئيًا، تفتقر لأبسط مقومات الحياة. هذه الأرقام، رغم هولها، لا تفي بوصف حجم الألم الذي يعيشه الناس يومًا بيوم.
في مقابلات ميدانية أجرتها منظمات إغاثية مثل منظمة "ريليف ويب" (ReliefWeb) خلال الربع الأول من 2024، تحدث أطفال نازحون عن لعبهم المصنوعة من علب المياه الفارغة، وأكياس البلاستيك المتهالكة، فيما وصفت أمهاتهم كيف يتشاركون في تحضير وجبة واحدة ليومين متتاليين، أحيانًا بلا لحم، بلا حلوى، بلا رائحة عيد، وحوالي 62% من العائلات النازحة في المخيمات تعيش تحت خط الفقر المدقع بحسب تقرير "برنامج الأغذية العالمي" (WFP)، ما يعني أنها لا تستطيع تلبية حاجاتها الغذائية اليومية.
أما خلال المناسبات الدينية مثل الأعياد، فتزداد الفجوة بين واقع النازحين وباقي السكان، فالعيد الذي يُفترض أن يكون مناسبة للفرح يصبح فصلًا جديدًا من فصول الشوق، يقف فيه الكبار على أطلال منازلهم المهدمة وذكرياتهم الموزعة بين ضياع وتشريد، نحو 54% من الأطفال في المخيمات الليبية لم يحتفلوا بأي شكل من أشكال العيد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بحسب تقرير صادر عن "اليونيسف" في مايو 2024. بعضهم لا يعرف طعم الحلوى، وآخرون لم يروا ملابس العيد منذ بدء النزوح.
ولا تقتصر المعاناة على النواحي المعيشية فقط، فالبعد النفسي يكاد يكون الأشد قسوة، وتؤكد منظمة الصحة العالمية (WHO) أن أكثر من 37% من سكان المخيمات يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة، تتراوح بين الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة. وتتصاعد هذه الأعراض خلال الأعياد، إذ تُستفز الذكريات ويُستحضر فقدان الأحباب، والبيوت، والحياة الطبيعية. الخيام المؤقتة، التي من المفترض أن تكون مأوى مؤقتًا، أصبحت قبورًا صامتة للأمل، تحتبس فيها أنفاس من عاشوا القصف والنزوح، وتحاصرهم قسوة البرد في الشتاء ولهيب الصيف.
المخيمات الليبية
وتفتقر المخيمات الليبية، وفقًا لمفوضية شؤون اللاجئين (UNHCR)، في 70% منها إلى شبكة صرف صحي مناسبة، وتُسجل نسبة انقطاع للكهرباء تتجاوز 20 ساعة يوميًا في معظم المواقع. هذا الواقع البائس يعيد إنتاج الحرمان بأشكال متعددة: أمراض مزمنة لا تجد دواءً، أطفال لا يتلقون التعليم، وشيوخ لا يجدون الرعاية، وتؤكد منظمة "أطباء بلا حدود" (MSF) أن ما يزيد على 60% من نقاط الرعاية الصحية داخل المخيمات مغلقة أو غير صالحة للخدمة.
إن غياب الأمان الغذائي في هذه المخيمات لا يهدد فقط حياة الناس، بل ينسف كل إمكانيات إعادة الاستقرار، فحسب البنك الدولي، فإن واحدًا من كل ثلاثة أطفال نازحين في ليبيا يعاني من سوء تغذية حاد، فيما تشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن نحو 45% من النازحين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة.
أمام هذا الواقع القاتم، تتحول الخيام من رمز للنجاة المؤقتة إلى سجن منسي، تُنسج فيه يوميات من المعاناة المستمرة. والاحتفال بالعيد في مثل هذه الظروف لا يبدو أكثر من محاولة يائسة لتذكير النفس بوجود شيء اسمه الفرح.. تتعالى في العيد أصوات الصمت، ويصبح "كل عام وأنتم بخير" جملة ثقيلة تُقال بقلوب فارغة.
ولأن المعاناة هنا لا تتوقف عند حدود المخيم، بل تتعداها إلى التأثير العميق على مستقبل ليبيا ككل، فإن الدراسات التنموية تؤكد أن استمرار النزوح يعرقل أي مشروع لإعادة الإعمار أو تحقيق الاستقرار السياسي. فالبنك الدولي في تقريره الصادر في أبريل 2024، يؤكد أن النزوح القسري كلف الاقتصاد الليبي ما يقارب 2.4 مليار دولار سنويًا من خسائر مباشرة وغير مباشرة، ويزيد من هشاشة الوضع الأمني بسبب تنافس المجتمعات المضيفة والمخيمات على الموارد القليلة.
حرية الدين حق مكفول ومسؤولية دولية
صرّح الدكتور مجيد بودن، رئيس جمعية محامين القانون الدولي في باريس، بأن حرية الدين والمعتقد تُعد من الحقوق الأساسية التي يحميها القانون الدولي بشكل واضح وصريح، وذلك من خلال جملة من النصوص والاتفاقيات الدولية الملزمة، على رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بالإضافة إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري والديني. وتكفل هذه الأدوات القانونية، على حد تعبيره، حق كل إنسان في اختيار معتقده وممارسة شعائره الدينية بحرية تامة، دون تدخل أو قيد من قبل السلطات أو الجهات الفاعلة.
وأضاف أن الممارسات التي تقوم بها بعض الأنظمة أو الجهات لتقييد حرية الدين أو عرقلة ممارسته، لا تنتهك فقط المواثيق الدولية، بل تحمل معها أبعادًا نفسية واجتماعية خطيرة، إذ يشعر الأفراد نتيجة لهذه الانتهاكات بأنهم مهمّشون ومنزوعو الحقوق، وهو ما يؤدي إلى الضغط النفسي، والعزلة، وتآكل الثقة بالمجتمع والدولة. وهذا، بحسب الدكتور بودن، لا يُعد فقط انتهاكًا قانونيًا، بل هو اعتداء على الكرامة الإنسانية التي تشكل جوهر منظومة حقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، أشار الدكتور بودن إلى أن القانون الدولي لا يكتفي بحماية هذه الحريات نظريًا، بل يوفّر آليات قانونية واضحة للمساءلة والمحاسبة، من ضمنها إمكانية اللجوء إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتقديم شكاوى رسمية ضد الدول أو الأفراد الذين يثبت تورطهم في انتهاك حرية الدين والمعتقد. كما تتحمل الدول المسؤولية الكاملة عن أفعال موظفيها، وحتى عن التقاعس في منع جهات غير رسمية من ارتكاب مثل هذه الانتهاكات، مشيرًا إلى أن صمت الدولة أو تواطؤها يعد مشاركة ضمنية في الانتهاك ويستوجب الملاحقة القانونية.
وشدد في تصريحاته لـ"جسور بوست"، على أن أي عمل تقوم به الحكومات أو الجماعات، سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر، يهدف إلى منع الأفراد من ممارسة دينهم أو التعبير عن معتقداتهم، يُعد خرقًا فادحًا للقانون الدولي، ويضع مرتكبيه تحت طائلة المساءلة الدولية والمقاضاة القانونية. فحماية حرية المعتقد ليست منحة تقدمها الدول، بل هي حق أصيل ومكفول ينبغي على الدول احترامه وصونه.
دور منظمات المجتمع المدني
كما أكد الدكتور بودن أهمية دور منظمات المجتمع المدني، التي يقع على عاتقها مسؤولية توثيق الانتهاكات المتعلقة بالحريات الدينية بدقة وموضوعية، مؤكداً أن هذا التوثيق يجب أن يكون مهنيًا، موثقًا، ومدعومًا بالأدلة المادية، لتكون له قيمة قانونية عند تقديمه إلى الهيئات الدولية، وأضاف أن الدفاع عن الحريات لا يقتصر على الأطر الجماعية، بل يحق لكل فرد الدفاع عن حقه في ممارسة دينه أو معتقده، سواء أمام السلطات الوطنية أو على الصعيد الدولي.
وأوضح أن القانون الدولي يُفرّق بدقة بين حرية المعتقد كحق داخلي للفرد في أن يؤمن بما يشاء، وبين حرية ممارسة الشعائر الدينية، التي تشمل الأبعاد العلنية والطقوس والرموز المرتبطة بالدين. إلا أن ما لا يمكن التسامح معه، كما قال، هو استغلال الدين لأغراض سياسية أو توظيفه كأداة للهيمنة على الآخرين أو فرض المعتقدات بالقوة أو الضغط. فمثل هذه الأفعال تُعتبر، وفقًا للمعايير الدولية، تعديًا على حرية الآخرين، وتمثل تشويهًا لمبدأ حرية الدين ذاته، الذي يقوم على الاحترام المتبادل والتعايش السلمي.
واختتم الدكتور بودن تصريحه بالتأكيد على أن حماية حرية الدين ليست مسألة دينية فقط، بل هي اختبار لمدى التزام الدول بسيادة القانون وحقوق الإنسان، داعيًا المجتمع الدولي إلى عدم التساهل مع أي انتهاك لهذه الحرية الأساسية، والعمل بشكل جماعي لضمان ألا يتحول الدين إلى ذريعة للاضطهاد، بل إلى جسر للتسامح والكرامة والعدالة.